بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شرح حديث "احفظ الله يحفظك"
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فروى الترمذي في سننه من حديث عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: كنت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا، فقال: ((يا
غلام، إني أعلِّمك كلمات: احفظ الله يحفظْك، احفظ الله تجدْه تجاهك، إذا
سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعلم أن الأمَّة لو اجتمعتْ
على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على
أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام
وجفَّت الصحف))[1].
هذا الحديث شرحه الحافظ ابنُ رجب الحنبليُّ في كتابه "جامع العلوم والحكم" شرحًا عظيمًا، ومما جاء في كلامه - رحمه الله -: "هذا
الحديث تضمَّن وصايا عظيمةً، وقواعدَ كليةً من أهمِّ أمور الدين، حتى قال
بعض العلماء: تدبرتُ هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش، فوا أسفا من الجهل بهذا
الحديث وقلة التفهم لمعناه!".
قوله: ((احفظ الله)):
يعني احفظ حدودَه وحقوقه، وأوامره ونواهيَه، وحفظُ ذلك هو الوقوف عند
أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده فلا يتجاوز ما أمر به
وأذن فيه إلى ما نهى عنه، فمن فعَلَ ذلك فهو من الحافظين لحدود الله،
الذين مدَحهم الله في كتابه فقال: ﴿ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ
﴾ [ق: 32]، وفسر الحفيظ ها هنا بالحافظ لأوامر الله, وبالحافظ لذنوبه
ليتوب منها، ومن أعظم ما يجب حفظُه من أوامر الله الصلاةُ، وكذلك الطهارة
فإنها مفتاح الصلاة، وحفظ الإيمان, وحفظ الرأس، ويدخل فيه السمعُ والبصر
واللسان، وحفظ البطن، ويدخل فيه عدمُ إدخال الحرام إليه من المآكل
والمشارب.
قوله: ((يحفظك)): يعني أن من حفِظ حدود الله وراعى حقوقه، حفظه الله؛ فإن الجزاء من جنس العمل، كما قال - تعالى -: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾ [البقرة: 40].
وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان:
الأول: حفظه له في مصالح دنياه؛ كحفظه في بدنِه وولده، وأهله وماله، قال - تعالى -: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الرعد: 11], قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: هم الملائكة يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء القدر خلوا عنه.
روى
الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: لم يكن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدَع هؤلاء الدعواتِ حين يمسي وحين يصبح:
((اللهم إني أسألك العفوَ والعافية في الدنيا
والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي،
اللهم استُر عوْراتي وآمن روعاتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني
وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بك أن أغتال من تحتي))[2].
كان
بعض العلماء قد جاوز مائة العام وهو متمتَّعٌ بقوَّته وعقله, فوثب يومًا
وثبة شديدة، فعُوتب في ذلك، فقال: هذه جوارحُ حفظناها عن المعاصي في الصغر،
فحفظها اللهُ علينا في الكِبَر، وقد يحفظ الله العبدَ بصلاحه بعد موته في
ذريته، كما قال - تعالى -: ﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ﴾ [الكهف: 82]، فإنهما حُفظا بصلاح أبيهما.
النوع الثاني
من الحفظ - وهو أشرف النوعين -: حفظ الله العبدَ في دينه وإيمانه، فيحفظه
في حياته من الشُّبهات المضلَّة، ومن الشهوات المحرَّمة، ويحفظ عليه دينه
عند موته، فيتوفاه على الإيمان، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله
عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا أوى أحدُكم إلى فراشه، فليأخُذْ داخلةَ إزاره، فلينفض بها فراشه))، ثم قال في آخر الحديث: ((وليقل: سبحانك اللهم ربي، بكَ وضعتُ جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكتَ نفسي فاغفر لها، وأن أرسلتَها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين))[3].
قوله:
((احفظ الله تجده تجاهك))، وفي رواية: ((أمامك)): معناه: أن من حفظ حدود
الله وراعى حقوقه، وجد الله معه في كل أحواله حيث توجَّه يَحُوطه وينصره،
ويحفظه ويوفِّقه ويسدِّده، قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ
﴾ [النحل: 128], قال قتادة: "من يتَّقِ الله يكن معه، ومن يكن الله معه
فمعه الفئةُ التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا مضل له".
قوله: ((إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)): هذا منتزع من قوله - تعالى -: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]، فإن السؤال لله هو دعاؤه والرغبة إليه، والدعاء هو العبادة[4].
فتضمَّن
هذا الكلامُ أن يُسأل الله - عز وجل - ولا يُسأل غيره, وأن يستعان بالله
دون غيره، فأما السؤال فقد أمر الله بمسألته، قال - تعالى -: ﴿ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ
﴾ [النساء: 32]، وفي النهي عن سؤال المخلوقين أحاديثُ كثيرةٌ صحيحة، وقد
بايَع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جماعة من أصحابه على أن لا يسألوا
الناسَ شيئًا، منهم أبو بكر الصديق، وأبو ذر، وثوبان, وكان أحدهم يَسقط
سوطُه أو خطام ناقته، فلا يسأل أحدًا أن يناوله إياه.
قوله: ((واعلم
أن الأمَّة لو اجتمعتْ على أن ينفعوك بشيءٍ، لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه
الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله
عليك، رُفعت الأقلام وجفَّت الصحف)): وقد دلَّ على ذلك الكتاب والسنة، قال - تعالى -: ﴿ مَا
أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي
كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحديد: 22], وفي "صحيح مسلم" من حديث عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كَتَبَ الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السمواتِ والأرضَ بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء))[5].
وروى الترمذي في سننه من حديث جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يؤمن عبدٌ حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن لِيخطئَه، وأن ما أخطأه لم يكن لِيصيبَه))[6].
قال عبيدالله بن عتبة:
وَاصْبِرْعَلَى القَدَرِ المَحْتُومِ وَارْضَ بِهِ
وَإِنْ أَتَاكَ بِمَا لاَتَشْتَهِي القَدَرُ
فَمَاصَفَا لاِمْرِئٍ عَيْشٌ يُسَرُّ بِهِ
إِلاَّ سَيَتْبَعُ يَوْمًاصَفْوَهُ كَدَرُ
ومدار
جميع هذه الوصايا على هذا الأصل, وما ذُكر قبله وبعده فهو متفرِّع عليه
وراجع إليه، فإن العبد إذا علِم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له من خيرٍ
وشر، ونفعٍ وضر، وأن اجتهاد الخلْق كلِّهم على خلاف المقدور غيرُ مفيد
ألبتة، علم حينئذٍ أن الله وحده هو الضار النافع، المعطي المانع، فأوجب ذلك
على العبد توحيدَ ربه - عز وجل - وإفراده بالطاعة، وحفْظ حدوده، فمن علِم
أنه لا ينفع ولا يضر، ولا يعطي ولا يمنع غير الله، أوجب ذلك إفرادَه بالخوف
والرجاء، والمحبة والسؤال، والتضرُّع والدعاء، وتقديم طاعته على طاعة
الخلق جميعًا، وأنه يتَّقي سخطه ولو كان فيه سخط الخلق جميعًا، وإفراده
بالاستعانة والسؤال له، وإخلاص الدعاء له في حال الشدَّة وحال الرخاء،
بخلاف ما كان عليه المشركون من إخلاص الدعاء له عند الشدائد ونسيانه في
الرخاء، ودعاء من يرجون نفعه من دونه، قال - تعالى -: ﴿ قُلْ
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ
اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ
هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ
يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [الزمر: 38]، وقال - تعالى -: ﴿ مَا
يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا
يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [فاطر: 2].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] ص 409، برقم 2516، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
[2] ص 547، برقم 5074، وصححه الألباني - رحمه الله - في "صحيح سنن أبي داود" (3/248).
[3] ص 1216، برقم 6320، وصحيح مسلم ص 1088، برقم 2714.
[4] حديث في سنن أبي داود ص 177، برقم 1479، وانظر: "صحيح الجامع الصغير"، برقم 3407.
[5] ص 1065، برقم 2653.
[6] ص 357، برقم 2144، وصححه الألباني - رحمه الله - في "صحيح سنن الترمذي" (2/226).
دمتم برعاية الله وحفظه
شبكة الألوكة